الأحد، 15 مارس 2015

ضفدع جوانغ زي

   

      طلبت المعلمة اليابانية هيرو يامادا من طلابها الصغار، الذين لا تتجاوز أعمارهم ١٥ عاماً، في مدينة ناجانو أن يبحثوا أسبوعياً عن مقولة شهيرة لأحد الفلاسفة القدماء للقيام بتحليلها وتشريحها ونقدها. كان أداء الطلاب مذهلاً رغم جسامة المهمة. كانوا يتنافسون فيما بينهم بحماسة على تحطيم العديد من المقولات الشهيرة بحجج وبراهين مثيرة. أشعلوا الفصل نقاشاً وسجالاً فكرياً. نجاح فكرة المعلمة يامادا جعلها تنتقل من فصل إلى آخر، من مدرسة إلى آخرى حتى عمت أنحاء البلاد. الطالبة تابايمو بدورها تصدت للفكرة على نحو مختلف. أختارت مقولة وردت عليها رسماً وليس كتابة وارتجالاً كالآخرين. احتجت على مقولة، ذائعة الصيت، للفيلسوف الصيني، جوانغ زي، عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، يقول فيها: (الضفدع، الذي في البئر لا يعرف شيئاً عن المحيط). رسمت تابايمو عدة لوحات تشرح فيها أن الضفدع في البئر يرى ما يدور في المحيط خلاف مايزعمه جوانغ زي. الأولى لضفدع في بئر يحدق في السماء. الثانية لسماء تحولت لمرآة. الثالثة لمرآة تعكس للضفدع ماذا يجري في المحيط. والأخيرة كانت للضفدع وهو يراقب المرآة كأنه يشاهد فيلماً، مستلقياً على ظهره وهو يتابع مايجري في المحيط بدقة ووضوح ومتعة. نالت تابايمو إثر هذه اللوحات الأربع تصفيقاً من زملائها وتقديراً كبيراً من معلمتها يامادا ومدرستها. أصبحت تابايمو أشهر طالبة في مدرستها وربما في مدينتها رغم أنها لم تكمل الخامسة عشر حينها. فقد كان يضرب بها المثل في خيالها الواسع ومهارتها في الرسم. التشجيع الذي وجدته تابايمو مبكراً جعلها تنصرف عن دراسة الأحياء. رأت أن الفن هو مكانها ومستقبلها.

     تخصصت في الفن و التصميم في جامعة كيوتو. وركزت على الرسوم المتحركة. قدمت أعمالاً مميزة جعلتها لا تستقر في اليابان أكثر من أسبوع واحد متواصل. فمن الصين إلى الفلبين، ومن هنغاريا إلى بلغاريا. شاركت في سبعة معارض في أمريكا، وخمسة في المملكة المتحدة، وأربعة في إسبانيا. وكرمها وطنها بتمثيله رسمياً في بينالي البندقية 54 في إيطاليا الذي انطلق في الرابع من يونيو 2011. ولم تجد تابايمو عملاً أكثر قرباً إليها من (ضفدع جوانغ زي) لتقديمه من خلال البينالي، الذي يقصده ملايين المتذوقين للفنون المعاصرة. وقد حولت تابايمو اللوحات التي رسمتها مبكراً ونالت استحسان زملائها ومعلمتها يامادا إلى فيلم رسوم متحركة بمؤثرات صوتية وتقنيات متعددة جعلته يحوز على إعجاب جمهور البينالي الذي تدفق على الجناح الياباني وحداناً وزرافات.

     وظهرت الفنانة الشابة تابايمو (36 عاماً ) في البينالي الذي يبلغ عمره نحو 116 عاماً بفستان بسيط تعلوه صورة معلمتها هيرو يامادا التي شجعتها مبكراً على إطلاق العنان لخيالها مما جعلها تصل لما وصلت إليه اليوم من نجاح وشهرة كبيرين. الإعلام الياباني والإيطالي و العالمي الذي كان يغطي البينالي لم يسلط الضوء على تابايمو وضفدعها فحسب، بل تطرق إلى يامادا في تصريحاته الصحفية إلى أنها سعيدة جداً أن فكرتها الصغيره بتشجيع الطلبة الصغار على نقد آراء الفلاسفة و العلماء مازالت تحصد النجاح. 

     يامادا واجهت مبكراً الكثير من التحفظات من زملائها تجاه فكرتها المبكرة. لكن واصلت مشروعها بثقة. إن علينا أن ندرك أن الأفكار الجميلة هي التي لم يسبقنا إليها أحد. وأن أجملها على الإطلاق هي التي تجد مناهضة ومعارضة في البداية. فالمرء عدو مايجهل. إن النجاح الذي حققته تابايمو لا يعكس موهبتها فقط، وإنما يعكس البيئة المحفزة التي نشأت فيها و شجعتها وأقرانها على عدم إعادة تدوير المقولات و الأمثلة والأفكار التي كانت تتردد في سالف العصر و الزمان بل بختراع صيغ جديدة تثير الدهشة و الأسئلة معاً. وتؤكد أن الأجيال الحالية قادرة على مقارعة الأوائل بل و التفوق عليهم. فلا غرابة أن نشاهد اليابان اليوم في صدارة الدول المنتجة و المتفوقة التي تنجب مئات العلماء و المبدعين الجدد الذين يحصدون جوائز و إعجاباً في كافة المجالات و الفنون ابتداء بنوبل وليس انتهاء ببينالي البندقية.

     تقديس شخصياتنا وتراثنا وعدم استيعاب الآراء الجديدة جعلنا ندفع ثمناً باهظاً. باهظ جداً. حرمنا من التقدم و التعلم وجعلنا أسرى للألم. فكم من فكرة وئدت في مهدها. إن أعظم فكرة ..... هي الفكرة غير التقليدية.

من كتاب 7:46م / عبدالله المغلوث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق